حبّة القمح
عثر بعض الأطفال في وادٍ صغير على شيء غريب الشكل أشبه ما يكون بحبّة قمح، ولكنّها في حجم بيضة الدجاج. وعبر عليهم أحد المسافرين، ورأى هذا الشيء الغريب، فاشتراه منهم، وأخذه وباعه إلى الملك كتحفة نادرة الوجود. فدعا الملك حكماء الدولة، وأخبرهم بما اشتراه، وطالبهم أن يعرفوا كنه هذا الشيء. أخذ الحكماء يتفحّصونه بدقّة، وبعد تفكير مليّ اتّضح للجميع أنّ هذا الشيء هو حبّة قمح، فذهبوا وأخبروا الملك بذلك. تعجّب الملك جدًّا، وأمر العلماء أن يجدوا أين ومتى يُزرع هذا القمح الكبير الحجم هكذا. أخذ العلماء يبحثون في كتبهم، لكنّهم لم يجدوا شيئًا بخصوصه، فقالوا له: "لا يمكننا أن نعطي جوابًا عن الأمر، إذ لا شيء ورد عنه في كتبنا. وما عليك إلاّ أن تسأل المزارعين، فربّما يكون واحد منهم قد سمع من آبائه أين ومتى يزرع هذا النوع من القمح". فأمر الملك بأن يحضر الفلاّحون الشيوخ ليقفوا أمامه، فحضر واحد منهم. دخل الفلاّح العجوز، وكان شاحبًا شحوب الموتى وقد فقد أسنانه، ويتحرّك متوكّئًا على عكّازين، مترنّحًا في مشيته. فأظهر له الملك حبّة القمح، ولكنّ الفلاّح لم يستطع رؤية الحبّة لضعف بصره، بل أخذها وصار يتحسّسها بيديه. فسأله الملك:
- هل يمكنك أن تدلّني أين تنمو مثل هذه الحبّة؟ هل اشتريت مثلها، أو زرعتها في حقلك؟
- وكان الفلاّح ضعيف السمع، وبالكاد يسمع ما يقوله الملك، وبعد أن فهم مضمون السؤال بصعوبة شديدة، أجاب: لم يحدث أنّي زرعت أو حصدت في حقلي شيئًا مثل هذا، ولا اشتريت مثله. وحينما كنّا نشتري القمح، كانت حبّاته كلّها صغيرة مثل تلك الموجودة الآن، ولكن يمكنك أن تسأل والدي، فربّما يكون قد سمع عن زراعة هذا النوع من القمح.
حينئذ أرسل الملك في طلب والد هذا الفلاّح، فأتى متوكّئًا على عكّاز واحد فقط. وسأله الملك: "هل يمكن أن تدلّني، أيّها الشيخ، أين يزرع مثل هذا النوع من القمح، وهل سبق لك أن اشتريت منه أو زرعته في حقلك؟". ورغم أنّ هذا الشيخ كان يسمع الملك بصعوبة، لكنّه سمع السؤال أفضل من ولده، فردّ قائلاً: "لا، لم أزرع مثل هذا القمح في حقلي. أمّا من جهة الشراء، فأنا لم أشترِ شيئًا من ذلك، لأنّه في زماننا لم تكن النقود مستعملة بعد، فكلّ واحد كان يزرع قمحه، وحينما كان أحدنا يحتاج إلى شيء منه كنّا نشارك بعضنا بعضًا في احتياجاتنا. كان القمح في أيّامنا أكبر من قمح الأيّام الحاضرة، وكذلك المحصول كان أوفر. ولكنّي سمعت والدي يقول إنّ في زمانه كان القمح ينمو أكبر ممّا في أيّامنا الآن. فما عليك إلاّ أن تسأله".
حينئذ أرسل الملك يستدعي والد هذا الفلاّح، فدخل ماشيًا بسهولة وبدون عكّاز أو عصًا، وعيناه تبرقان لامعتين، وسَمَعَه كان جيّدًا، وكان يتكلّم بوضوح وأسنانه كاملة لم يضع منها سنّ واحد. أراه الملك حبّة القمح، فنظر إليها متفحّصًا وهو يقلّبها بين يديه، ثمّ ردّ على الملك قائلاً:
- يا سلام، منذ زمان طويل لم أرَ مثل هذه القمحة الجيّدة. قال هذا وقضم بأسنانه القويّة قطعة منها وتذوّقها، ثمّ أضاف قائلاً: إنّها من النوع عينه الذي زرعته.
- أخبرني، يا جدّي، أين ومتى كان يُزرَع مثل هذا القمح؟ وهل اشتريت مثله من قبل أو زرعته في حقلك؟
- إنّ هذا القمح كان يُزرع في كلّ مكان في زماننا، وقد عشت على خبزه في أيّام شبابي وأطعمت أولادي منه.
- قلْ لي، يا جدّي، أين كان حقلك، وأين كنت تزرع قمحًا كهذا؟
- حقلي كان هو أرض الله، وحيثما كنت أحرث أرضًا، فهناك كان حقلي. كانت الأرض بلا ثمن. لم يكن أحد يدّعي أنّ شيئًا ما ملكه. العمل بعرق الجبين كان هو الشيء الوحيد الذي يمتلكه كلّ إنسان.
- ولكن، لماذا كانت الأرض تُخرج مثل هذا القمح، وكفّت عن ذلك الآن؟
- لأنّ الناس كفّوا عن أن يعيشوا بعمل أيديهم وبعرق جبينهم، بل صاروا يعتمدون على عمل الآخرين وعرق جبينهم. في القديم كان الناس يعيشون حسب ناموس الله. لقد كانوا يقتنون ما هو لهم، ولم يكونوا يحسدون الآخرين أبدًا على ما في أيديهم. كانت المحبّة تجمعنا، وأمّا الآن...
- آه، لقد فهمت، وأدركت الآن ما الفرق الواضح بينك وبين ابنك وحفيدك. إنّها الحياة بحسب ناموس الله، إنّها المحبّة.
اعداد دير راهبات القديس يعقوب الفارسي المقطع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق