يسوع الذي أعرفه .. "مذكرات راهبة"
يسوع الذي أعرفه أحبني أولاً، أحبني كما أنا، فقيرة، ضعيفة، خاطئة.
لقد ولدت عام 1908م من والد فرنسي وأم بلجيكية متدينة، ولما بلغت السادسة
أخذتني أمي في ليلة عيد الميلاد إلى الكنيسة، وكم دهشت عندما رأيت في
المذود طفلاً صغيرًا عاريًا نائمًا على القش، فسألت أمي: "ماذا يفعل هذا
الطفل؟" فقالت لي: "ألا تعرفينه؟ إنه يسوع الذي نزل من السماء لأجلنا"،
فاندهشت أكثر لماذا لا ينام على سرير جميل مثل كل الأطفال؟ قالت لي أمي:
"إنه يحب الفقراء، لذلك أراد أن يشاركهم حياتهم".
تركت هذه العبارة
فيَّ أثرًا لا يمحى، فقد مات والدي واختفى عن نظري إلى الأبد، وكنت أقول
لنفسي كثيرًا: لو كان والدي هنا لحملني بين ذراعيه !! وها يسوع مستعد أن
يأخذني بين ذراعيه !
لذلك قلت له من أعماقي: إني أحبك، لو كنت معك
وقتها لأحضرت لك البطانية لتدفأ، لقد فقدت السعادة والأمان بموت والدي، وها
سعادة وأمان أكبر يدخلان قلبي بحب يسوع لي. من هذه اللحظة تمنيت أن أعيش
فقيرة بين الفقراء مثله.
كنت أذهب مع والدتي يوم الأحد لأتناول
بالفستان الأبيض وأرجع سعيدة لأكل الجاتوه، لكن أمي قالت لي إن شيئًا أهم
يسعدك، إن يسوع الذي يحبك يدخل قلبك هذا اليوم .. قلبي أنا !!! يا للجمال.
بدأت أشعر أن يسوع عريسي يحبني أكثر من كل الناس، لقد مات حبًا فيَّ. بدأت
أنظر لمن حولي بنظرة يسوع، فلا أراهم أشرارًا أبدًا بل أرى الخير داخلهم.
إنه الحب الذي يجعل كل شيئًا جميلاً، فعندما أرى طفلاً يضرب ويشتم آخر أضمه
في حنو إليَّ، أجده يهدأ ويهدأ حتى يبدو ملاكًا.
(من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه)
هذه الآية الذهبية لم تفارق ذهني أبدًا، يسوع مستعد أن يدخل قلبي كل يوم،
لذلك عزمت من قلبي أن أذهب للكنيسة كل صباح قبل المدرسة وحتى نهاية عمري
مهما كانت الظروف. لقد ظن من حولي أن هذا اندفاع طفولي سرعان ما يهدأ. ولكن
مضت الآن 75 سنة حتى كتابة هذه الكلمات لم أتأخر يومًا عن سر الإفخارستيا
(التناول). ترى ما الذي يجعل فتاة صغيرة تستيقظ الرابعة صباحًا تجري وسط
الثلوج في الشتاء القارص لتذهب للقداس، ثم تعود لتذهب للمدرسة !! وحتى في
السبعين من عمري كنت أسير في المقطم وسط الخنازير ورجلي تغوص في أكوام
الزبالة لأذهب للكنيسة لأتناول وكأني على موعد للحب. نعم، وأي حب ! إنه
يسوع الذي يجذبني، إنه يجدد روحي الضعيفة فأشعر أن بي طاقة أستطيع بها أن
أحارب.
ولكن هل يكفي أن أتناول كل صباح؟ إن يسوع يقول لي: كل ما
فعلتموه بأحد هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم. سأذهب معك يا يسوع وأشارك كل مريض
وبائس حياته، وعندما أنحني لأضمد جراحاته أشعر أني ألمس جسد يسوع.
نحو سعادة أكبر: كنت في الصباح أتناول وفي المساء الفسح ولعب التنس ومقابلة
الأصدقاء، ثم ماذا ؟ إني أريد أن أكرس قلبي وروحي لك يا يسوع، أعيش مع
الفقراء والمساكين. كان هذا النداء يناديني كل يوم، فصرخت من أعماقي: هل
أنا احبك أم لا؟ لماذا أنتظر؟؟ وبدأت خدمتي في الأماكن المحيطة لكن هذا لم
يشفِ غليلي .. إني أريد أكثر .. لقد غادرت أوروبا إلى القاهرة وكانوا
يقولون لي: يا للمسكينة !! الأخت إيمانويلا ستعيش حياة بائسة. لم أفهم
كلامهم لأني كنت في منتهى السعادة.
قضيت سنوات تنقلت فيها بين
اسطانبول وتونس ومصر، وأخيرًا وجدت ضالتي المنشودة في عشوائيات المقطم، فقد
سمعت عن الزبالين وما هو معروف عنهم، مجرمين ولصوص يعيشون في القذارة حتى
أن البوليس نفسه يبتعد عنهم. هناك تعرفت على عائلة وطلبت منهم تأجير حجرة
لي، ولا تتصور فرحتي عندما جاءوا لي بعربة كارو وضعت عليها سرير وكرسي
ولمبة جاز.
وبالرغم مما سمعته عنهم إلا إني وجدت داخلهم قلبًا
محبًا، سريع الاستجابة، فقد تغيروا سريعًا بالحب وحده. لقد شاركتهم غذاءهم
المفضل "طبق الفول" وجلست معهم على الأرض وغسلت رجلي صلاح وجرجس ومحمد
لأخرج منها الزجاج أو مسمار أو غيره مما يدخل أرجلهم و هم يسيرون حافين أو
يلتقطون مخلفات الأطعمة غذاء لهم من بين أكوام الزبالة.
لقد وجدتهم
أقرب إلى الله من كثيرين، ترنم فوزية تنتقل إليك سعادتها، وعندما يصرخ جرجس
قائلاً: "يارب ارحمني أنا الخاطئ" يقولها من أعماقه فيستنير وجهه. لقد
تعلمت أن أصرخ مثله عندما أقع في شدة وأقول: "يارب ارحمني أنا الخاطية"
إنها أسعد أيام حياتي، عندما طرقت الباب في نصف الليل أم حلمي تصرخ الحقيني
يا ميس قبضوا على حلمي، واذهب للظابط أشرح له الأمر فيعود لبيته في
الصباح.
لقد عشت مع إخوتي الزبالين 22 سنة، لم أتركهم إلا لأسافر
أوروبا أجمع الأموال من الأغنياء لأبني المدارس والمستشفيات والنوادي. 3
مرات منفصلة أخذت شيك بمليون جنيه من أجلهم.
عندما أنظر إلى حياتهم بعد أن تغيرت كثيرًا أدرك أن بعد الصليب دائمًا توجد قيامة ونصرة، فأقول لنفسي: يا إيمانويلا (Emmanuelle) ؛
"إلي الصليب مع يسوع قومي حاربي حتى أخر نسمة في حياتك،
إن القيامة آتية والسماء مفتوحة"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق